المتبصر في واقع الاحتجاجات في فرنسا وبلجيكا على الزيادة في المحروقات والصعوبات المعيشية لتتطور الأمور حتى وصلت إلى مواجهة مباشرة بين الشرطة و المحتجين و تخريب الممتلكات العامة و العنف المتبادل و إضرام النيران وإحراق السيارات في أكثر من مكان، يجعلك تدرك أن الشعوب الأوروبية غير مستعدة للتنازل عن مكتسباتها و غير قابلة للزيادة في أسعار المحروقات أو الضرائب، علما أن فرنسا على سبيل المثال تعتبر من الدول المتقدمة في معدل الأجور حيث يقدر الحد الأدنى من الأجور ب 1500 أورو في الشهر. ورغم أن الخدمات التعليمية و الصحية تعتبر جيدة مقارنة مع دول الاتحاد الأوروبي، فهذا لم يمنع الفرنسيين من الاحتجاج و الغضب على الحكومة و التعبير عن ذلك في مختلف المدن، فهم مستعدون للتضحية و التعرض للأذى حفاظا على حقوقهم و مكتسباتهم الاجتماعية و يرفضون أي انتكاسة أو زيادة، وسيلاحظ ذلك المتتبع للوضع الفرنسي في تصريحات المحتجين على الحكومة.
في المقابل نجد في دول شمال إفريقيا و المغرب العربي على وجه الخصوص، جل الشباب يبحثون عن طرق الهجرة للوصول إلى أوروبا التي يرونها جنة، رغم أن المواطنين الفرنسيين و البلجيكيين غير راضين عن الوضع القائم بوطنهم، ورغم ذلك تجد أن بلدان شمال إفريقيا أكثر استقرارا رغم الزيادات المتكررة في العديد من القطاعات، وهنا نلاحظ الفرق بين الأوروبيين الذين اختاروا الاحتجاج و ليس الهجرة لأنهم يدركون بوعي أن الإصلاح و الضغط على الجهة الحاكمة أولى من ترك الوطن و ترك الفرصة للفساد للتحكم.
وهنا تبرز قيمة المعرفة و رؤية الشعب الواعي الذي يبحث عن المكتسبات الدائمة عوض التغريب و الشقاء و ترك المجال للآخرين ينعمون بخيرات الوطن و هذه الرؤية يفتقدها دول شمال إفريقيا عموما و الوطن العربي بشكل عام، رغم أن التغيير يمكن أن يحدث في الدول الأوروبية عبر صناديق الاقتراع ويمكن للشعب أن يسقط أي مسؤول بحكم القانون المنظم في تلك البلاد، كل هذا لم يكن عائقا للأوروبيين للاحتجاج بالقوة والعنف ضد سياسات الحكومة، ولو وقفنا هنا سنعلم حجم الفرق بين الشعوب التي تصنع مصيرها وتقرره.