أسماء النعيمي تكتب : صورنا اليومية وهوس الفلتر

أسماء النعيمي 

 

منذ طفولتي وأنا اكره كل ما هو اصطناعي وبعيد عن ما هو معهود بالنسبة لي بدءا من الدواء الذي كانوا أهالينا يرغموننا على تناوله انتهاءا برفض صارم لارتداء الملابس التي يشتروها لنا من خارج محيطنا وتكون مختلفة كليا ولا تشبهني و لم يستهويني يوما أي شيء مخالف للطبيعة التي جبلنا عليها.

في مراهقتي كانت جل قريناتي يعملن على تزيين وجههن بالماكياج عداي كنت أكرهه للعمى أحسه وكأنه يسلب من محياي الذي عهدته يخطف مني حقيقتي ولن اعد أعرف من أمون حتى أنني لازلت أحمل بمخيلتي ذكرى حول هذا حيث حاولت أحداهن صبغ شعري بالمنتج المتبقي لها بعدما استعملته فرفضت ذلك وحينما أصرت بدأت بالصراخ وحاولت جاهدة إقناعها بوجهتي نظري حول الموضوع حتى أغضبتها لتتراجع عن خطتها.

لكن في وقتنا الراهن كيف لنا أن نحافظ على طبيعتنا نحن الذين لازلن لم نقتنع بالتغييرات الجذرية للشكل البشري خصوصا بعدما أصبحنا نعيش في زمن مفلتر كل شيء فيه يظهر عكس حقيقته ، والجميع يرغب في الظهور بصورة مغايرة لهويته ، فنجد الغني الذي يسافر إلى أفضل بقاع الأرض لأجل التقاط صورة تمكنه من الحصول على أعلى نسب مشاهدة لصفحته عبر السوشيل ميديا واذا لم يشعر بالنشوة التي كان يتوقعها تراه يبحث عن أفقر مكان لأخذ صورة تظهره في أبشع حالاته فقط ليصنع الإثارة بين معارفه ويثير الجدل عبر صفحاته.

أما الإنسان الذي ينتمي للفئة المجتمعية المتوسطة تجده يفعل كل ما بوسعه للتجول في الأماكن الباذخة فقط ليحصل على صورة وهمية يشاركها مع أصدقائه الوهميين ليظهر بينهم بمظهر الأغنياء لأجل الحصول على شعور الرضا الاجتماعي وتناول فطوره بآخر دراهمه ليلتقط صورة لنوعية المأكولات حتى لو ظل بقية الشهر مفلسا.

أما الإنسان البسيط المحدود الدخل والقابع تحت عتبة الفقر فهو تائه بين هذا وذاك يشاهدهم بحسرة ويعتقد أن كل ما يراه حقيقيا مما يدفعه لنذب حظه المتعتر فيترك نفسه للسوشيل ميديا يركض وراء آخر منشوراتهم في عز اكتئابه ليعرف مستجداتهم ويتخيل نفسه بمكانهم يوما ما … وهذا يكشف صبغة مجتمعاتناالجديدة المجتمعات المفلترة التي أصبح رجالها يريدون أن يكتسبون جسما كالذي يمتلكه زلاتان إبراهيموفيتش.

وابتسامة كالتي تزين وجه براد بيت ويركب بأفخم سيارة كالتي يستقلها كريسيانو رونالدو ويريد أن يتناول وجبته في برج خليفة ، أما النساء كل واحدة منهن تمنى لو أن يصبح جسمها كعارضات الأزياء ووجها كالذي تمتلكه الأميرات وملكات الجمال وتعيش تفاصيل حياة يومية كالتي تعيشها عائلة كاردشيان ،وترتدي أفخم تصاميم لايلي صعب وتتزين بمجوهرات باهظة الثمن كالتي تتزين بها أحلام الشمسي.

حتى صار جل أفراد المطمعات مهووسة بالفلترة والتقليد الأعمى والشعور بالرضا انتقص بشكل كبير والغالبية صارت تحتقر التفاصيل البسيطة والأشياء الثمينة بقيمتها المعنوية، وقبل أن يتم استبدال الكائن البشري ومحي آخر ما يميزه علينا أن نعود أدراجنا لأصولنا وطبيعتنا البشرية التي جبلنا عليها فتسريحة شعري ليسس بالضرورة أن تشبه تسريحة شاكيرا وعيوني ليس بالضرورة أن تقارن بعيون انجلينا جولي وطولي ليس ضروري أن يصبح كمقاس جيجي حديد وما أرتديه ليس مهما بالمرة أن يكون متناسقا كأناقة شيريل كول وليس بالضرورة أبدا أن أعيش برفاهية جورجينا رودرغيز حتى يقال عني بأني شخصية تنطبق عليها شروط المجتمع المفلتر.

نحن هكذا خلقنا على طبيعتنا ومشرط الجراح التجميلي لا يمكنه أن يسحب الذكريات التي صنعت تجاعيدنا فقط من خلال شده باحترافيته العالية ليظهر جلدنا في أبهى حلة حسب مقاييس الجمال الذي اخترعها البعض للفنانين وعارضات الأزياء وفجأة صارت مفروضة علينا جميعا ، لأجل هذا يجب أن نتفطن قبل فوات الأوان فلسنا مضطرين لتناول المزيد من البروتينات والفيتامينات المصنعة وغيرها كي يرانا الآخر بالصورة التي يريدها ، لسنا مضطرين أن نخفي ملامحنا الحقيقية بالمزيد من الماكياج وحقن البوتوكس فقط لنحصل على بشرة تثير إعجاب المجتمع الجديد الذي غير قناعاته ومفاهيمه للأمور ، لسنا مضطرين أن نتصنع ونتخلى على عفويتنا لإرضاء الغير حتى ننسى شكل وجوهنا التي عاشت معنا كل شتى تفاصيل حياتنا وشهدت على فتراتنا التي لم تكن سهلة بتاتا ورافقتنا في كل الدروبات التي أنهكتنا حتى تجاوزناها بسلام لكنها طبعت خدوشا عليه كان من المفترض ان تزينه ونشكره عليها كلما نظرنا إليها عبر المرآة لكن جلنا فضل العمل على إخفائها كي لا تذكره بما مر به في السابق.

تجاعيد وجهي شاهدة على عدد الضحكات التي ارتسمت عليه تعبيرا على الفرح وعلى المرات التي تجهم خلالها نتيجة لحزن ما او لحظات الغضب التي مرت بي شعري المتقصف الذي لم يعد يستهويني شاهد على عدد المرات التي لامسه أحبائي على عدد المرات التي مشطته أمي وجدتي وخالاتي وعلى عدد المرات التي شده أخي أثناء اللعب أو المجادلة ، جلدي المتصبغ شاهد على كم مرة تعرض خلالها لأشعة الشمس على الشاطئ وفي الطرقات أثناء ركضي نحو تحقيق الأهداف .
و لن ينتقص مني شيء إن لم أرضخ لشروط هذا المجتمع المفلتر وفي النهاية كل ما هو مفلتر سيزول مع الأيام حينما تنتهي صلاحيته أما البقاء الدائم يظل لكل ما هو طبيعي .

 

 

 

 

Loading...