بقلم: عبد الرزاق الشارف
الشعراء الرديئون جيّدون، وصحيّون، ولا ينبغي ذكرُ أسماء، لأن الشاعر الرديء لن يفهم أن حكمك برداءة صنعته لا يعني التبخيس من حجم صداقته..
محبا للشعر قارئا له باحثا عنه، مقدما نفسي بهذا الاعتبار كنوع من إبراء ذمة مفترَضة بنعوت منصوبة، فقد قيل بتبدل الزمان وانتكاس الذوق وانهيار دور النشر إلا عن حائط الرواية، أما ميدان الشعر فصار اسمَ علَم لكل حامل قلم، غير أني متشائم متمرّس في المهنة، متى ارتاح أهل زمان إلى زمانهم؟ إنهم متشائمون دائما متخَمون بحنين قاتل إلى ذهَب العصور الماضية..وكان حذيفة بن اليمان يذم وقته ويُنذر باقتراب ميعاد الدجال. ولا يسأل النبيَّ إلا عن ميعاد الشرّ وانهدام أساس الدنيا.
سأفهم الحيلة بعد مدة: في ذمّ الزمان، يقوم نبيّ الشعرية الراهنة بالتسويق لنفسه بطريقة غير مباشرة، فسد الزمان ونبت شعراء الأراضي السبخة (هذا ما يقوله بلسانه الناطق)، وآن أواني، أنا المكتوم وإمامكم المعصوم (هذا ما لا يقوله بلسان قلبه الثاني). لم يقترح محمد بن تومرت نفسه مهديا على أهل المغرب دفعة واحدة، بل تدرّج في الوعيد والوعد، والتبشير والإنذار سنواتٍ، وأقام نفسه مهديا بطريق التلويح والإرهاص لا بالتصريح، وإذ لا قرّاء لي فلأن كل نبي غريب في قومه، يقول الشاعر الحزين، و”آش اخبارك يا المكحّل ف آسَلاّس” (مثَل مغربي: ما شأنك أيها المكتحل في الظلام؟)…
لا أزعم أنني لا أقرأ ما يُكتب، بل أقرأه بتدبّر، وشدّ ما أذهلني تغيّر أحكامي، ربما القراءة والتمرّس في فكّ أزرار النصوص ما جعلني قارئا مستنزَفا، تُرهقني الأوصاف وسيلان الحروف في نصوص مترهّلة كهذه، ولكنني أقرأ الرديء: بشغف أحيانا أعود إليه وأقرأه، وإن حجبتُ صفحة الشاعر الرديء فإني أزورها أحيانا وأطمئنّ إلى أنه ما زال رديئا: نصوصه لا تُنافسُ رمزيتي بيني وبين نفسي، تقدمتُ كثيرا بحيث لا معنى للمجاملة، ولا مجال للمقارنة أصلا فقد مات الرديء بسكونه إلى إعجابات هوائية، ولكنه صحّي: يسدي لي خدمة عظيمة بكتابة الرداءة التي كنت لأقع فيها لولاه، بل أكتشف عيوبا خلقية في نصوصي ما كنتُ لأراها .. أقرأ رداءته باستمتاع شاكر، ولا أضع لايكا ولا أي حركة لأن النصوص رديئة مكرّرة وسخيفة وبدائية جدا ولا أستطيع إكمالها، أقرأ لأطمئنّ فقط على ظهري…
متى اشتريتُ ديوان شعر آخر مرة؟ كان ديوانا لابن الفارض ولم أقرأه كاملا، لأن طريقة دخول عالم الموسيقى لا تكون بالجلوس ساعات متصلة إلى باخ أو بيتهوفن، الأمر ينشأ متراكبا وعلى فترات: أقرأ أولا جيميته الشهيرة، ولا أكملها بل تعذبني أصوات كافيته الشهيرة أيضا “ته دلالا فأنت أهل لذاكا”، أبدأها وأضيع وأغلق الكتاب. أعطي الشاعر وقته ولا آبهُ للصبيب.
هو أول ديوان شعر اشتريته، وآخر واحد سأشتريه على ما أعتقد، لا نشكو من ندرة النصوص في النت، بل أشكو أنا من تكاذب الشعراء واستمرار الجميع في نشر سراويله، ولا أحب الملاحم يا الله، تصوروا شاعرا يكتب نصا واحدا من 200 صفحة متصلا بعضه ببعض؟بدا لهُ أنني أنهيتُ كل روايات الرفوف الوسطى لأهتم بثغاء نعجة مكتوب بين دفتين من الورق المقوى: من الأخرق الذي يعتقد في نفسه النبوءة والكتاب؟ أطبع قبلة على جبين كاليماخوس، قارئ مكتبة الإسكندرية الذي خرج عن صف الهذيان وقال: كتاب كبير، ملل كبير. ولا شكر لي على الترجمة: mega biblion mega kakon
إن عالم الأصوات الذي نسميه اصطلاحا: اللغة، هائج بالمتلاطمات، وبالأصلاد والجروف، ويقترب الشاعر فيه من الموسيقار ليبتعد عن الأديب ما أمكن، ينحت ويحذف، لأن التمثال حي في جذع الشجرة كما قيل أيضا (تستهلكني النقول وأنوء باستحضار الأسماء للاقتباس فأرميها) أقول: مهمة الصانع إخراج الصنم من عالم الالتحام إلى عالم التمايز والانفصال. تلك حاسة معذِّبة لا يعرفها الرديء الذي يتألّه فينهمر شلالا من العادمات والصراخ الجاف. إنه يكتب وينشر ويدمّر غابات الورق. ولكنهُ يمنحني نموذج الفشل الذريع الذي أتجنبه.
تذكّر موتك، تلك حكمة من الفلسفة الأبيقورية، ولا شكر لي مرة أخرى على الترجمة: memento mori
تذكّر ما ستصير إليه، أيها الكاتب، يأتي عليكَ وقت ينبغي لك فيه خياطة شفتيك والخلود إلى صمت مشرّف.
إلى ذلك الحين، احذر من موت الفجأة.
..
أنبه إلى أن هناك نصوصا رديئة، وهي غير الشاعر الرديء: المتمكن قد يكتب ما لا نحبّ، قد ينشر أشياء في غفلة من السكر أو الحشيش، أو لحنين ذائقته إلى البدايات، ولكن عاداته تحتّم عليه الروعة..أما الشاعر الرديء فهو رديء دائما، وإن أجاد فضربة لازب في غفلة من السكر أو الحشيش. وهو بلا بدايات، لأنه لم يبرح العتبة بعد أن أدفأها بكسائده.