بقلم: عبد الرزاق الشارف
تحاور هذه الورقة فكر علي حرب، وتحاول بسطه ما أمكن في زمن الرقمية والسرعة، لما له من إنتاج فكري يؤسس مشروعا يهدف إلى التفكيك لا على أساس الاقتراض من دريدا، وإنما بروح إبداعية تخلخل وتناقش وتعيد تركيب فكر التفكيك الفرنسي أيضا.
إن علي حرب في نقائضه على مشاريع المفكرين العرب، لا يحمل معولا فقط، ولا يعوّل كثيرا على مطرقة نيتشه المفضّلة عند المشاغبين، بل هو يحرث ليبذر، ويهدم ليبني، ويقلع ليشتل.
تستوقفنا آراء المثقفين العرب بعد الهزيمة، فقد غازلت الثنائيات بعضها حدّ التواطئ لنهش جسد الفكر العربي، تواطأت المتناقضات حد هدم نفسها بدعاواها الزائفة، وانفضح الفكر عن أعطابه فظهر مثقف السلطة ومثقف الحاشية ومثقفو العامة ومثقفو المساجد ودور النشر..ولم تفلح أي دعوى في تحقيق ما ترمي إليه، وإنما -يقول علي حرب- أنتجت نقيضها بكفاءة.
في عالم عبثت به المعاني والاصطلاحات، متخوم بالمفكرين والشيوخ والقساوسة، منقسم بين “فسطاطين” أصوليين ينهشانه: الأصولية الإسلامية بما هي دعوى لتخريب محاولات التحديث والإصلاح بإقصاء الآخر حد تقتيله وتفجيره عبر ثعالب ضالة هنا وهناك، وبين أصولية إنجيلية تقود الفكر والعلم نحو مستنقع فظاعاتها الخرافية وأساطيرها التي عفّى عليها الزمن.
وبين الأصوليتين تدلع غلمان الحداثة ومراهقو الصف الاشتراكيون والمرقّعون المزوّقون و”المعذّرون من الأعراب” المهووسون بأوهام النخبة وعشّاق التنبّؤ، وكلٌّ فتَح بسطة في باحة العلوم الفائقة لينشر ما يريد معيدا إنتاج الخراب نفسه، بينما الأزمة كل الأزمة في أصول التقسيم ذاتها، في الاتكال على الثنائيات القديمة، حيث التوحيد أصل التشرذم إلى ملل، وحيث الحداثة أصل الخراب بنفخها في أنانية الإنسان..وحيث يصلنا صوت علي حرب منذرا ومنظّرا لأزمة العقل الكوني: الإنسان أدنى مما يعتقد في نفسه، ولا حل إلا في التواضع والتقى الفكريين .
جذور الأزمة:
دأب التقسيم الأكاديمي على النظر إلى تاريخ الفكر العربي المعاصر بتشظيته إلى ثنائيات، وفساطيط وجزر وأحزاب، يركل كل مفكر جذر الخراب إلى معسكر منافسيه، غافلا عن الأنانية الهدامة التي يُنتجها خطاب التشظية هذا.
يقف علي حرب على قمة الهاوية ويعلن أن الجميع مسؤول، وأن القاع لم يزدحم إلا بجثت الأسلاف المُصطفيْن الأخيار وأضرحة المعبودين: أصوليين وحداثيين، رأسماليين واشتراكيين، وعلى المرء أن يعيَ مدى خطورة ما يقول قبل ان يفعل، وليس المفكر بذي عصمة حتى لا تناله أقلام النقد والمساءلة: لا ينقصنا الوعي والفكر، وعلى المفكّر أن يكف عن الترويج لشعار السذّج المُؤدلجين: دعوتي صائبة، وبريئة من التطبيق الذي كان خاطئا متنكّبا، “داعش لا تمثل الإسلام”، “الاتحاد السوفييتي لا يمثل ماركس”، “الزبدة لا تمثل الحليب”، فإذا نعيْنا على الشيخ والفقيه خلافته لله في الأرض وادعاءه حمل إرث النبوة، فإن متنوّرنا العربي يلبس عباءة النبي نفسه ليبرز علينا بشيرا ونذيرا وهاديا إلى صراطه المستقيم، حتى إذا سُفّهت أحلامه وتعاورته أيادي النقد تباكى كالمصلوب..إن الأصل خاطئ وباطلٌ، وكل قولة تحمل في قلبها ما يهدمها، ومهمة المفكّر هي في تفكيك القولة إلى أجزاءَ لفضح مسبّقاتها الباطلة بما يعتورها من نقص ونقيض[1]، وإن العالم العربي اليوم موبوء بكثرة المفكرين إلا أنهم عقل ولا تقى، وفكر ولا تواضع، بل تتضخم الأنا لدى المثقف حدّ إقصائه للآخرين، بينما الوقتُ وقتُ التآخي والتداول، والتواضع لا أمام الآخر البشري، بل أمام الآخر الكوني.
أثمرت الحداثة ما لا حاجة لنا في بسطه هنا، عالم اليوم يتحدث عن الأمن الغذائي والصحة وتحسّن متوسط عمر الأفراد، تأنسنَ كل شيء وحاول الجميع تمديد عمر البشرية على الأرض بالتكافل، ولكن الخراب حلّ بابتداع وسائل القتل الشامل، وارتقينا عالةً على الطبيعة الأم فأفسدناها أو نكاد، وسالت القيَم وأحس إنسان الحضارة الفائقة بالاغتراب في بيته وصارت أيامنا كلها أخبارا مستعجلة وساعات صِفر، وهنا يؤكد علي حرب على أن البشَر تألّه في الحداثة فوقع في نفس الأزمة التي أغرقت الأصوليات الدينية القديمة: انتقلنا من تقديس اللاهوت إلى تقديس الناسوت..غيّرنا الآلهة وتركنا المعابد على حالها، وبنـيْنا مجتمعاتنا الحديثة على شفير البركان: إنها مجتمعات المخاطَرة[2].
يُقامر آلهـة الخراب المعاصرون بالبشرية، إذ لا يعرفونَ حقا إلا المصلحة، وهي مصلحة ذاتية أوإقليمية ضيقة، ولا يعيرون انتباها لما قد تؤول إليه الاتهامات الخرقاء وفقدان الثقة، فليست الأزمة أزمة فقيه كما يرى الحداثي، وليست هي بأزمة علمانية كافرة كما يرى الأصولي، بل هي أزمة مشتركة تنبع من احتكار الحق في الوصاية على عقول الآخرين. كما أن الأزمة ليست أزمة إقليم كي ينكمش كل فريق ويمنع التدخل، إن الأزمة أزمة كوكب، وكل دولة لا تستحضر هذا الخطر تنفي آنذاك حقها في الوصاية على رقعتها الصغيرة[3].
“الإنسان”: مفهوم ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير:
ينظُر علي حرب إلى عالم اليوم فلا يراه إلا متكلّسا، منطويا على ذاته وخاملا في معالجة الأسئلة الحقيقية، وكأن التاريخ قد انتهى فعلا وحلّت القيامة: يروّج الفكر السائد اليوم لأسئلة الهوية ويغفل عن الغاية منها، ويحاور مفكّرونا الأشاوسُ فلسفات الغرب عن المعرفة والحقيقة مُغفلين السؤال الراهن: ما الغاية التي نرجوها من معالجة أسئلة لا تعنينا؟، “ليست الحقيقة إلا أوهاما واستعارات نافعة” قالها نيتشه لينهيَ إهدار الوقت في تعاريف وتشقيقات تشغّب علينا المسائلَ المهمة، مسائلَ الوجود بما هو بقاء..أو بعبارة علي حرب: إن تفكيكه لا ينفي الحقيقة، وإنما يكشف زيف المُتعاليات عن الحدث والكائن الآن[4]..إن الفلسفة والفكر العربيين وقعا في فخاخ علم الكلام والجدل..بينما السؤال الملحّ ليس إلا سؤال المصير والخاتمة: ما قيمة الإنسان في عالم يكاد ينهار عليه؟
من هنا، يؤسس علي حرب، بما هو مفكّر مهنته إنتاج الأفكار وتوليدها كما ينبّه ويؤكد دائما، فهو لا يتغطرس على إخوته المهنيين والفلاحين والعمال، يؤسس لمفهوم الإنسان الأدنى، الذي يقف في المنتصف بين إنسان نيتشه المدمّر وإنسان فوكو الميّت جثة هامدة، بين إنسان متضخّم متمركز حول ذاته ومسيطر على تاريخه، وإنسان خاضع فاقد للإرادة ليس إلا قنّا في شبكة من البنى المعقدة[5]، إن الإنسان الأدنى هو إنسان عرف قدره فأعطى لنفسه حقها دون سيادة على الطبيعة حدّ قتلها..إنه “أدنى” مما “يعتقد بكثير”، وليس هو فوق ولا تحت، بل هو جزء من الكوكب في نفس مستوى باقي الكائنات، وعليه، إذ يعي قيمته هذه، أن يصرف طاقته لما فيه خير الجميع.
أمراض الديــن وأعطاب الحداثة:
للعالم العربي تاريخ حافل في إضاعة الفرص، بالتقدم حثيثا إلى الوراء كلما سنحت فرصة المشاركة في كتابة تاريخ العصر، حضارتنا الذهبية في الماضي وهمّ مثقّفينا هو في استحضار الأرواح بارتكاب مجازر على التراث واجتزاء ما يخدم الفكرة وإقبار كل ما من شأنه هدمها[6]، وبدل أن يكون الله مفهوما معزّيا ومواسيا يصير عبئا ثقيلا على كاهل الـمتكلّمين الجدد كل يحاول الدفاع عنه في “غيبته الكبرى”، ويصير مفهوم الإله الواحد الذي يوحّد مفهوما كارثيا ينتج طوائف الحرب والتكفير والقتل والتحريق، للدرجة التي جعلت من بيروت بلدة مدرّعة وأرخبيلا من الجزر المتحاربة[7]. ويذكّرنا علي حرب دائما بالتشبيح الذي يمارسه دعاة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، كسالى العلوم المتربصون خلف أبواب المعاهد العلمية كضباعَ همّها سرقة الجديد ونِسبة السبق إلى القديم البائد. إن الإنسان العربي ذو أنا متضخمة تفوق سعة العربي على حملها فتُنهكه، ولا يرى في الآخر إلا وسيلة لبلوغ الغاية بتحقيق الملكوت الموعود على الأرض.
إن هذا الجلد العنيف للذات، ليس بكائية على الحائط، ولكنه تقويض للبناء الساقط، علّنا نتدارك ما نؤسس عليه بنيانا آخر لا يقع في فخاخ الهويات النقية وتهويمات السلطة وتشبيحات المثقفين. عالم الغد إن أردنا البقاء هو عالم الهُجنة والوثنية والتعدد، يؤكد حرب، حيث يعيش الآخر مع آخره ولا يتعايش معه: العيش مساواة وقبول بالتعدد، والتعايش ممارسة سلطوية وصدقَة من السيد للعبد، من الأكثرية للأقلية، وبقدر ما تبدو هذه الأفكار كلاسيكية بقدر ما يتعجب مفكّرنا اللبناني من انتهاكها من طرف الداعين إليها.
وهذا ما يتعقبه علي حرب بتفصيلٍ، فدعاة الحداثة لا يقلون مراوغة ونفاقا وسلطوية عن دعاة الأصولية والارتداد: فيما الأخيرون يعلنون المماهاة مع الماضي حدّ العبادة، فإن شيوخ الحداثة يقهروننا بلطميات وبكائيات عن الحداثة التي فوّتناها فضاعت منا، بحيث يكون العرب اليوم في العدم، فلا هم في الحداثة ولا هم فيما بعدها، نحن خارج الزمن “تماما”، وما نرزح فيه من إرهاب وحروب واستبداد جزاءُ تخلّينا عن القيم الحقة للحداثة التي فطِمنا عنها قبل اكتمال حملها، وهذا ما يأباه عقل علي حرب، وينعى على هؤلاء المتباكين المتمشيخين على ضريح الحداثة، ويرى ان العربي منذ حملة نابوليون جزء لا يتجزأ من الحداثة ومآزقها، وأن كل أعطابنا وأعطاب الأمم الأخرى لم تنتج عن كفرنا بقيم الحداثة بقدر ما كانت نتائج لها أيضا. علينا الكفّ عن النظر إلى الحداثة كما لو كانت دينا، فليس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قرآنا ولا إنجيلا، وإن كان للحداثة قيمة فهي في تعليمنا كيف نتجاوز دون التخلي عن المكتسبات، ومتى صارت الحداثة نصا مستغلَقا مقدسا نتعقبه بالشروح والحواشي فقد أخطأناها وجعلناها “تراثا ضد التراث”[8] ليس إلا، وعلى شبيحة الفكر أن يراجعوا الأصول التي ينطلقون منها، لأنها تصدر عن مشكاة الأصولية نفسها.
ما بعد التفكيك: هكذا يقرأ علي حرب
يحكي التراث أن عليا بن أبي طالب صكّ كتاب الله وهو يقول: انطق، كلّم الرجال، فيستغرب الخوارج ويقولون: إنما هو مداد في ورق، ونحنُ من نُنطقه[9]. مات المؤلف العربي تحت سقيفة بني ساعدة أو قبلها بقليل، وليس تدشين نصب له في الزمن ما بعد الحديث إلا تطـويعا لموته القديم، فالمؤلّف يموت اليوم مباشرة مع انتهائه من نصّه، ليتسيّد الشراح بعد ذلك فوق الجثة كل يبعّضها كيف يريد على مشهد من المؤلف المسكين.. “موتوا قبل أن تموتوا”..الناسخ يحمل في طياته منسوخَه، لقد غلبَ الهامشُ على المتنِ الذي صار ضريحا يُقصد للبركة والتوسّل، وليس لنا من عزاء في زمن السيولة إلا التشبّث بمظلات المعنى. يقول الحديث: ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت.
قد تبدو قراءتنا هذه لبعض نصوص التراث جزافية واستسهالية، ومُغامِرة في متاهات المعنى، ولكن، أليس هذا هو فعل القراءة؟ أوَليست القراءة نوعا من التحريف المحتوم لما يريده المؤلّف؟ ليست الحقيقة ما هو واقع خارجي بقدر ما هي أدوات الإدراك لهذا الخارجي[10]، فلماذا يُراد لعربي اليوم أن يقرأ نصا لعلي بن أبي طالب كما قرأه شاب من طنجة في القرن الخامس عشر؟
يعي مفكّرنا أزمــة المعنى المنفلت هذه، ويعي أيضا أزمة المعنى المتكلّس الذي ينفي كل حيوية بشرية وكل فعل للقراءة، ليس لنا من عاصم يعصمنا عن الميل والانحراف، إذ لا وجود للحقيقة بألف ولام التعريف لكيلا يزيغَ عنها إلا هالكٌ، وليست القراءة صدى لصوت أصيل، بل هي احتمالية من احتماليات النص المتن، وإمكان من إمكاناته [11]، وإذّاك لا جدوى من محاولة فرض الرؤى الاصطفائية والأوهام النخبوية على الآخرين، وأمام هذا الليفياثان المدمّر، يملكُ علي حرب نفسه ويؤكد على الأسس التي بإمكانها أن تساعد إنسانَ العصر على الخروج من سيناء[12]:
التواضع والتقى الفكريان
الإقامة الأرضية (استحضار البعد الكوكبي)
نبذ النزعة الاصطفائية وكسر النرجسية
الاتصاف بأخلاق الهجنة والتداول
تـؤمن البنيوية بأن المعنى المُرادَ موجود هناك في مكان ما بين طيات النص، أما التفكيكية فلا ترى في النص إلا ركاما من الأصوات المتنافرة قد يحمل معنى وقد لا يحمل، ومهمة الإنتاج هي على عاتق القارئ الذي قد يخلق الشيء من اللاشيء، وإذ يعرف هذا، فإن على القارئ أن يظل حيويا في قراءته مفتوحا على كل احتمال، فالنص في الأخير هو مجموع قراءاته المحتملة، وعلى المعنى أن يظل مُرجَـأً ومؤجّلا دائما. وهذا ما يمارسه علي حرب في تفكيكه لآراء بعض المفكرين المعروفين، فيـكشف عما تفضحه آراء ابن رشد من نخبوية وأوهام استعلائية، وعن الاحتقار الاصطفائي الذي يضمره صراع حضارات هانتنجتون، وعن أوهام المطابقة والهويات القارّة وغيرها من الشعارات الكبرى التي يرفعها مجايلوه من المفكرين والمثقفين العرب[13].
إن علي حرب لا يعطي الحقيقة، ولا يدّعي وقوفه على مراد الكاتب لأن الأمر مستحيل، بل يحاول جعل التفكيك تقليدا يفضح المتعاليَ عن اللحظة، وادعاءات التجريد والنقاوة المعنوية، ويكشف ما يحاول المفكّر ستره حتى يتواضعَ الأخير ويعي كتلته في ميزان الكوكب.
عود على بدء:
نحبكُ القول حبكا في التفكير والفلسفة، وإذ نضيع في التزويق ننسى أنّ على الخطاب أن يتحمل مسؤولية ما، حتى لا يتهرّب كل لسان من تبعات هذره، لا ينبغي قتل نبي بخلق أنبياء من بقاياه؛ وتلك أزمة منهج التفكيك التي يحرص أعداؤه على فضحها: العدمية. ويبدو لنا علي حرب كالذي أحبّ لعبة نفي المآلات بتعدادها، كالصوفيّ الذي يضفي الشرعية على كل الطرق المتوازية لأنها تؤدي في الأخير إلى الله، أي إلى اللاشيء..الوقتُ لا يسمح بهذا النوع من الترف: نريد خطابا علميا ما أمــكن بعيدا عن المحسنات اللفظية والمعنوية، لأننا أُتخمنا بهذيان الإنسانيات التي لم تتفق بعد على تعريف واحد. الواقع لا يرتفع بمغازلة الجميع على الورق، نريد فقط من المؤلّف أن يتحمّل مرة أخرى أوزار ما يقول بتقديمه واضحا سلسا ما أمكنَ باختيار لغة المواضعة البسيطة التي لا تختبئ وراء الفن من أجل الفن، لقد تعبنا من نصوص آلهة الغياب التي تُحمّلنا عبء الدفاع عن كل ملفوظاتها بالتحايل على تفاسير القوم. سقط في فخ العدم من دافع عن الوجود والبقاء والحقيقة المجردة بلغة الماء. هكذا تتربى عقول الناس على ادعاء الوحدة وحيازة الحق، في حين تُـنمّط العلوم الحقّة لغتها لكي تنقذ نفسها من عطب الميوعة[14].
يبتعد متن علي حرب عن تقعير الفلسفة الفرنسية ورطانتها لا شك، ولا يؤسس مشروعه على المستغلقات، وتطوُّرُ أعماله ينحو إلى التسهيل مما يوقعه في كثير من الأحيان في أزمة التكرار واجترار الأفكار، يُحمد لمؤلفاته صغر الحجم فهي ليست كأسفار العهد القديم التي يُتحفنا بها تُجار الفكر، غير أن البعض قد يسائله عن المناحة التي يدبّجها ضد مؤبّني الثقافة العربية، وعن صوته اليائس الذي لا يعرف الأمل الا صراخا في البراري.
المصادر:
[1] علي حرب، أوهام النخبة أو نقد المثقف، (الدار البيضاء، المغرب، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة: 2004)، 43-44.
[2] علي حرب، تواطؤ الأضداد الآلهة الجدد وخراب العالم، (بيروت، لبنان، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى:2008)، 38. يقترض علي حرب هذا المفهوم من أولريش بك الذي له كتاب بنفس العنوان.
[3] علي حرب، المصدر نفسه، 203 وما بعدها.
[4] علي حرب، نقد الحقيقة، (الدار البيضاء، المغرب، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى: 1993)، 2. يقول: “من هنا ليس نقد الحقيقة نفيا لها بقدر ما هو تعرية آليات وكشف أقنعة […] فليست الحقيقة شيئا يتعالى على شروطه أو يكتفي بذاته”.
[5] علي حرب، الإنسان الأدنى أمراض الدين وأعطال الحداثة، (بيروت، لبنان، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية:2010)، 224.
[6] راجع: جورج طرابيشي، مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة، (بيروت، لبنان، دار الساقي)
[7] علي حرب، تواطؤ الأضداد، مصدر سابق، 207 وما بعدها. يخصص علي حرب قسما كاملا للنظر في الصراعات المعوْلمة في لبنان.
[8] أوكتافيو باث، أطفال الطين، ترجمة: أسامة إسبر، (دمشق، سوريا، دار الينابيع، الطبعة الأولى:2001)، 10. يتحدث باث عن تراث ضد نفسه، وكيف أن عبادة الجديد جعلت الحداثيين تراثيين في نفس الوقت. يمدح باث هذا الانتماء المعكوس بشرط أن يظل حيويّا مستداما، ونرى في كلام علي حرب عن العقلانية التداولية صدى لما يقول أوكتافيو.
[9] مسند الإمام أحمد، شرح وتحقيق: أحمد محمد شاكر، (القاهرة، دار الحديث، الطبعة الأولى: 1995) الجزء الأول، رقم الحديث: 656. نقرأ: “فجعل يصكه بيده ويقول : أيها المصحف حدث الناس، فناداه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين ما تسأل عنه؟ إنما هو مداد في ورق ، ونحن نتكلم بما روينا منه”.
[10] علي حرب، نقد الحقيقة، مصدر سابق، 2. يقول : “إنها (الحقيقة) ليستْ ما نراه وننظر إليه، بقدر ما هي ما به نرى أو ما منه ننظر”.
[11] علي حرب، هكذا أقرأ ما بعد التفكيك، (بيروت، لبنان، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى:2005)، 21-22.
[12] علي حرب، تواطؤ الأضداد، مصدر سابق، 43-44-45-46
[13] علي حرب، هكذا أقرأ ما بعد التفكيك، مصدر سابق، يشكل الكتاب درسا تطبيقيا للتفكيك من منظور حرب، حيث يضع ابن رشد وونّوس وشحرور والمرزوقي وغيرهم تحت مبضع نقده التفكيكي.
[14] إميل سيوران، المياه كلها بلون الغرق، ترجمة: آدم فتحي، (كولونيا، ألمانيا، منشورات الجمل 2003)، 30. نقرأ: “تجريد الأدب من أقنعته، رؤية وجهه الحقيقي، أمر لا يقل خطورة عن حرمان الفلسفة من رطانتها. هل تقتصر إبداعات الفكر على تجميل التفاهات؟”.