بقلم: توفيق عزوز
لن أبالغ إذا قلت إن أيا من باعة اليأس وقتلة الأمل لم يكن قادرا على تصوّر السيناريو الذي عاشته أمهات وآباء وأزواج وأطفال معتقلي حراك الريف والصحافي حميد المهداوي. نعم، لم يكن هناك من مبرر لتوقع خروج جماعي لشباب حلم بمستشفى وجامعة من البوابة الخلفية لمحكمة الاستئناف بمدينة الدار البيضاء، لكن تأييد الأحكام الابتدائية بعد نوبة «الصرع» التي إنتابت المغرب إثر صدورها قبل بضعة أشهر، كان آخر الكوابيس التي خطرت على بال من وقفوا ليلة الجمعة الماضية منتظرين النطق بالأحكام يكفي معتقلي موجة «استرجاع هيبة الدولة»، كما يتوهّمها البعض، أن التاريخ سيحتفظ لهم بشهادة لن تمحوها الأحكام ولا الحيثيات.
سيسجّل التاريخ أن شبابا مغاربة خرجوا ذات ليال غاضبين لطحن الراحل محسن فكري في حاوية للأزبال، وهو يلاحق مصدر رزقه الذي صادرته سلطة كان حريا بها ملاحقة الحيتان التي تحتكر ريع البر والبحر وتفرّغه في قنوات قطاع يسمى بـ«غير المهيكل»، فيما هو في الواقع الهيكل الحقيقي الذي يقتات منه عموم المغاربة.
يكفي قرابين هبة الدولة أن أغلبية حكومتهم، التي خرجت في بيان مشترك لتخوينهم وتوفير «الغطاء الجوي» لاعتقالهم وكتم أصواتهم، هي نفسها التي عادت، إثر ارتعاش الجسد المغربي بعد صدور الأحكام الابتدائية القاسية شهر يونيو الماضي، لتكتب بحبر أسود أن «من حق المتهمين ودفاعهم اللجوء إلى استئنافها، طبقا للمساطر القضائية الجاري بها العمل، بما يفتحه ذلك من آمال لدى المتهمين وأسرهم في مراجعة هذه الأحكام، كما تتطلع إلى ذلك أحزاب الأغلبية»، ثم أطل وزير دولتهم في حقوق الإنسان في إحدى الممرات من البرلمان قائلا إن «القاضي ابن بيئته، ومن حقه، إن لم يكن من واجبه، أن يأخذ بعين الاعتبار مشاعر مجتمعه، سواء في تقدير خطورة الجريمة، أو في تحديد حجم العقوبة، فليس استحسان حكم كاستهجانه».
يكفي معتقلي الورود والشموع أنهم كشفوا عورة هؤلاء، كما كشفوا عوراتنا جميعا. فشباب الحسيمة وضواحيها وجرادة وكهوفها وبوعشرين والمهداوي والمرتضى… هؤلاء جميعا ليسوا ضحايا سلطة مستبدة أو ظالمة فقط، بل هم ضحايا سياق وطني نشترك جميعا في صنعه. هؤلاء وأمهاتهم وزوجاتهم وأطفالهم ضحايا اختلال فظيع في التوازن بين المجتمع والدولة، أسهم فيه الجميع كل من موقعه وحسب حجمه، وعلى رأس القوم نخبتهم في السياسة والإعلام والجامعة. فمن لم ينخرط في جوقة الإغراق والتبرير والتسويغ، شارك بصمته وأنانيته وبحثه عما يعتقده خلاصا فرديا، فيما هو غوص جماعي في وحل من القذارة.
لقد تابعنا قبل أيام كيف أن الحكومة تراجعت عن «خيار استراتيجي» بعد يومين فقط، حين أعلن وزيرها في التربية الوطنية أن التعاقد يرقى إلى هذه المرتبة، قبل أن يعود ليتنازل عنه بالكامل؛ لكن أحكام ليلة الجمعة الأخيرة كشفت الخيار الاستراتيجي الحقيقي الذي لا تراجع عنه. إنه خيار الحكم بالقوة، وبالتالي، استقرار بالقوة وتعايش مفروض بالقوة. وما كان في زمن الربيع العربي سببا لمدح المغرب، بات لدى البعض نقيصة ينبغي التخلص منها.
على المصابين بقصور النظر السياسي التوقف للحظة واحدة ليجيبوا عن الأسئلة التالية: كيف سنقنع العالم بأن ما نقترحه حلا لاستكمال سيادتنا على الصحراء يقوم على إقامة ديمقراطية حقيقية ولامركزية فعلية ومواطنة محصنة وحقوق جماعية وفردية محمية بالقانون والقضاء، وأن على المنتظم الدولي أن يثق في هذا المقترح؟ كيف نقول للعالم إننا نتسامح مع المختلف، ونُكرم المهاجرين، ونضمن حقوق المسيحيين واليهود واللادينيين، فيما نثكل الأمهات ونفجعهن في أبنائهن ونيتّم الأطفال بهذه القسوة؟ هل تستطيع وفودنا النظر في أعين الأجانب لتغريهم بمناخ سياسي واجتماعي وقانوني آمن وجذاب للرأسمال والسياح وحركية الأشخاص والبضائع؟
الحقيقة أننا سائرون نحو نموذج جديد، يلقّح الاستثناء المغربي السابق بجينات الاستغناء عن الواجهة المؤسساتية التي كنا نحلم بتحويلها إلى ديمقراطية حقيقية، اقتداء بسياقات إقليمية ودولية يراها البعض غطاء مواتيا لتحوّل كهذا، فيما يقتضي منطق التاريخ والحد الأدنى من الكياسة التسلّح بأقصى ما يمكن من عتاد التوافق والاستيعاب لاستباق هذا الوحش الذي يطرق بابنا بقوة، ويكفي أن نلتفت إلى ما يقع في ليبيا والجزائر…
أحكام الجمعة الأخيرة كانت، دون أي شك، رسالة، كل يقرأها ويؤولها بطريقته، لكن أوضح سطورها يخاطبنا جميعا ليقول إن أي هزة مقبلة سوف لن تكون «ربيعا»، ولا يُترك لنا أي مجال حتى لتوهّم ذلك. هو «خريف» ينتصب أمامنا خيارا وحيدا، فإما خريف استبداد وخضوع، وإما خريف فوضى وضياع، الخريف آت.