الهوية بين الخصوصية والكونية كمدخل لفهم أزمات المجتمعات الراهنة

بقلم: ذ.أنور بلبهلول

لا يأخد الحديث عن سؤال الهوية منحاه الصحيح دون حضور ثنائية الخصوصي و الكوني، ذلك أن هذه الثنائية الجدلية تستحوذ على حيز كبير من موضوع الهوية بل يمكن القول أنها جوهره. فما هي الهوية الخصوصية و الهوية الكونية؟ وأين تتجلى أهميتهما في الموضوع و في فهم واقع المجتمع ككل؟
إن الحديث عن ثنائية الخصوصي والكوني يلازم البشرية منذ القدم بإعتباره إفراز موضوعي يفرض نفسه في الواقع، هذا الأمر الذي دفع ويدفع الباحثين والمفكرين المهتمين بموضوع الهوية لدراستها خصوصاً في زمننا الحاضر، حيث زادت حدة اقتران المشاكل بهذا الموضوع بل أصبح عائق أمام الإنسانية في ظل الرؤية الغير متضحة لمستقبل العالم ووضعه المفارق.
يعتبر الطرح القائل بالهوية الكونية الخيار السوي لإصلاح المشاكل و الأزمات البشرية لدى العديد من الباحثين حيث تذهب ثلة مهمة منهم لإعتبار الإنسانية القاسم المشترك بين الأفراد بغض النظر عن مرجعياتهم الدينية و الثقافية والاجتماعية وغيرها، معتبرين الطابع الإنساني هو الموحد لبني آدم، فمظاهر الحب و التعايش و التأزر و التعاون..كلها تشكل أصل الإنسان و من تم وجب الآخد بها كمبادئ لهوية موحدة تضم الإنسان بمنئ عن مرجعياته، أي الإنصهار في الطابع الأصلي للإنسان متجاوزين خصوصيات الهويات المختلفة التي تفوت فرص التعايش الكبرى و تكرس الإنغلاق و التعصب و غيرها من الإفرازات السلبية.
يبدو أن الهوية الكونية تتأسس على متن سديد إلى حد ما، يؤكد على ضرورة الرجوع إلى فكرة الإنسانية المتواجد أينما وجد الإنسان، ذلك أن سمات الفرح و التعاون و التآخي و الحب و الحزن.. متواجدة في مونتريال كما هو الحال في صنعاء وفرانكفورت وجاكرتا، فالإحساس واحد بينما يبقى الإختلاف في كيفية التعاطي مع الموضوع وفي هذا الصدد يدعو مؤيدي طرح الكونية إلى تجاوز الثقافات الخصوصية لإعتبارها تعمل على الإنغلاق على نفسها لكن إلى أي حد يصح طرح الكونية هذا في ظل تغول النموذج العولمي؟
لا يختلف كل ملم بقضايا الهوية على أن الكونية كمشروع إنساني لم تعد إمكانية تحققه متاحة كما يتصورون في ظل هيمنة النموذج العولمي الإقتصادي الرأسمالي بإمتياز الذي لا دخل له في المطامح الإنسانية البشرية وهنا يصبح الإشكال أكثر تركيبية حيث تصبح الكونية تصب في العولمة و تؤسس لها و تقويها بطريقة أو بأخرى، فلا يمكن الأخد بالكونية كخيار بمعزل عن العولمة التي تعمل على إخضاع البشرية لتاريخية واحدة كما يذهب برهان غليون بقوله”العولمة عملية توحيد قسري و إكراهي للبشر من الناحية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ارتبطت بنشأة نمط جديد من السيطرة الكوكبية و الإختراق الكلياني”.
هنا تبدو مظاهر التداخل بين الكوني و العولمي فهما يؤسسان لبعضهما كيف ذلك؟ كما أسلفنا تقوم الكونية على مبدأ التعايش الإنساني في نموذج واحد يتجاوز كل ما هو خصوصي و لعل هذا ما نراه اليوم فنمط الحياة و العيش و اللباس و التطلعات الحياتية… شبه واحدة ولعل هذه الحالة هي غاية العولمة الفتاكة التي تجبر الكل للخضوع لها دائماً (إقتصاديا,ثقافيا،سياسيا..)، في ظل هذا الوضع إلى أي حد يمكن اعتبار الهوية الخصوصية ملجئ وحصن للإحتماء من تنين العولمة المتضمن للكونية ؟
لا شك في أن إحدى أبرز وظائف الهوية هي الحفاظ على الذات الإجتماعية و الثقافية و من ثم الإقتصادية للأمم و المجتمعات، تتم عملية الحفاظ هاته بشكل غير مباشر عن طريق الإيمان و الإحترام للمعايير السائدة (المعقولة)  وذلك بحرص الكل على الحفاظ على مكتسبات أمة أو مجتمع ما، حيث أي حالة ضعف أو هزل تعني السيطرة من طرف الأخر المختلف ولعل هذا ما يحدث معنا اليوم، فبعد تمرير مفاهيم مفروغة من محتواها لنا من قبيل الحداثة، الديموقراطية، العقلانية.. بالمقابل تم في نفس الوقت ضرب أهم مقوماتنا البنائية الدين و أنظمة الثقافة و كبح جماح أي محاولة تتوخى إصلاح التعليم، ولعل هذا متجلي بالشكل اليسير للجميع دون الحاجة لإعتماد منهج ماركس الديليكتيكي.
صفوة القول الهوية الكونية الإنسانية “البريئة” لا يمكن تحقيقها في ظل نظام عولمي خطير يتداخل معها، ومن ثم يبقى مطلب دعاة الخصوصية يكتسي من المشروعية ما يكفي لحماية ذوات الأمم و المجتمعات من المد العولمي الخبيث في ظل صراع خطير ضمني ذو روافد أبعد من الإقتصادي يستهدف القضاء على النموذج الخصوصي التعددي للمجتمعات العالمية بصفة عامة و النموذج العربي الإسلامي على وجه الدقة.
Loading...